منتدى ماستر القواعد الفقهية والأصولية بفاس
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى ماستر القواعد الفقهية والأصولية بفاس

وتطبيقاتها في الأحكام والنوازل
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول
المنتدى في طور البناء، لا تبخلوا عليه بمشاركاتكم
عما قريب ستزول الاعلانات المزعجة، إذا كان منتدانا نشيطا، فلنساهم في إزالتها بالمشاركة والإفادة والاستفادة

 

 ضوابط فقه النوازل

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
camara alhassane

camara alhassane


عدد المساهمات : 3
تاريخ التسجيل : 30/03/2012

ضوابط فقه النوازل Empty
مُساهمةموضوع: ضوابط فقه النوازل   ضوابط فقه النوازل I_icon_minitimeالسبت أغسطس 11, 2012 7:56 am

ضوابط فقه النوازل (1)
تمهيد : (1)
الحمد لله الذي أنزل القرآن شريعة ومنهاجًا، وجعل السنة له شرحًا وتبيانًا، فاتضحت معالم الأحكام، واستبان الحلال والحرام، ثم اكتملت المنة وتمت النعمة على هذه الأمة ببقاء هذه الشريعة الخالدة، ودوام صلاحيتها لكل زمان ومكان، فلا ينضب معينها، ولا ينفذ عطاؤها، فهي تفي ـ أبدًا ـ بحاجات كل عصر، وبمتطلبات كل دهر، فلا تجد حادثة إلا وللشريعة فيها حكم، ولا تنزل نازلة إلا ولأهل العلم والفقه فيها رأي، والصلاة والسلام على خيرة خلق الله في أرضه وسمائه، محمد بن عبدالله سيد أنبيائه، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد نزلت شريعة الإسلام وحيًا من عند الله ـ تبارك وتعالى ـ تحمل في أصولها ما يعالج قضايا الاعتقاد، ويرسي قواعد العدل والمصلحة والرحمة في الأحكام واستقامة السلوك. وخلود الشريعة وكمالها وتمام النعمة بها يصدق بنصوصها وأصولها الثوابت، منضمًا إلى ذلك مجالات الاجتهادات النابعة من أصالة الفكر في تفهم النصوص ومقرراتها وفي حسن تطبيقها في كل ما يجد في الحياة من وقائع، وما يلم بها من تطورات ومتغيرات بسبب حوادث الفكر الإنساني وتلوث البيئات والتحولات في المجتمع وما تقتضيه سنن الله في هذا.
والاجتهاد في تفسير النصوص أو النظر في الوقائع لتنال حكمها في الشرع، كل ذلك طريقه: إما النص في المنصوص عليه، وإما فهم النص فيما لم ينص عليه، ولا يكون ذلك إلا لذي الرأي الحصيف، المدرك لعلم الشرع الشريف.
وفي هذا يقول أبو حامد الغزالي: »وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع، وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل، فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل، فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول، ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد«.(2)
وذلكم هو ميدان الاجتهاد من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير من منصوصة.
وبتعبير آخر: هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال.(3)
والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص، وفي طريقة تطبيق حكمه، أو في مسلك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص، والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه.
يوضح ذلك شمس الدين ابن القيم في عبارة سلسة مبينًا نهج الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ فيقول: »... فَالصَّحَابَةُ ـ رضى اللَّهُ عَنْهُمْ ـ مَثَّلُوا الْوَقَائِعَ بِنَظَائِرِهَا، وَشَبَّهُوهَا بِأَمْثَالِهَا، وَرَدُّوا بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ في أَحْكَامِهَا، وَفَتَحُوا لِلْعُلَمَاءِ بَابَ الاجْتِهَادِ، وَنَهَجُوا لهم طَرِيقَهُ، وَبَيَّنُوا لهم سَبِيلَهُ«.(4)
وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد، فهذا ليس منهجًا مشروعًا، بل هو افتئات على حق الله في التشريع، حتى ولو كان جادًا بعيدًا عن الهوى، مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع، ومبادئه، وأصوله، وحقائق تنزيله، ومثله العليا ومقاصده الأساسية.
ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل في فهم النصوص الشرعية، وتطبيقاتها، ودلالتها، وقواعد الشرع المرعية(5).
يقول أبو حامد الغزالي: »اعلم أن العلم في قسمين: أحدهما شرعي، والآخر عقلي، وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها، وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها، قال تعالى: وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ (40) سورة النــور.
فالعلوم الشرعية أكثرها عقلي؛لأنه لابد فيها من استعمال طلاقة العقل، وكذلك أكثر العلوم العقلية شرعي عند التحقيق؛ لأنه لابد من مراعاة قيد الشرع، والجمود والتقليد لا يكونان فقط بالكف عن استعمال العقل، وإنما يكونان أيضًا بالفصل بين ما هو شرعي وما هو عقلي، والاستغناء بأحدهما عن الآخر؛ فعدم استعمال العقل في الشرعي جمود وتحجر، وكذلك عدم الاهتداء بالشرع في العلوم العقلية جمود وتحجر؛ لأن الحق الواصل عن طريق الوحي لا يتعارض مع الحق الواصل عن طريق العقل الصحيح بالبحث والنظر«.
1 ـ معنى النوازل في اللغة: (6)
النوازل جمع نازلة، والنازلة في اللغة: اسم فاعل من نزل ينزل إذا حلَّ. وقد أصبح اسمًا على الشدة من شدائد الدهر.
2 ـ معنى النوازل في الاصطلاح:
أولاً: تُطلق النوازل في اصطلاح الحنفية خاصة على:
الفتاوى والواقعات، وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لَمّا سُئلوا عن ذلك، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد، وأصحاب أصحابهما، وهلم جرا.(7)
ثانيًا: تُطلق النوازل في اصطلاح المالكية خصوصًا في بلاد الأندلس والمغرب العربي على: »القضايا والوقائع التي يفصل فيها القضاة طبقًا للفقه الإسلامي«.(Cool
ثالثًا: شاع واشتهر عند الفقهاء عامة إطلاق النازلة على:
المسألة الواقعة الجديدة التي تتطلب اجتهادًا وبيان حكم.
ومن ذلك: قول ابن عبد البر: »باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص في حين نزول النازلة«(9).
والمقصود أن النازلة لابد من اشتمالها على ثلاثة معان:
الوقوع، والجدة، والشدة.
وقد جمع هذه القيود الثلاثة التعريف الآتي:
(ما استدعى حكمًا شرعيًا من الوقائع المستجدة).
أو يُقال: هي الوقائع المستجدة الملحَّة.
فائدة في الفرق بين النوازل والوقائع والمستجدات:
تبين لنا مما سبق أن النوازل إنما تُطلق على المسائل الواقعة إذا كانت مستجدة، وكانت ملحَّة، ومعنى كونها ملحَّة أنها تستدعي حكمًا شرعيًا.
وأما الوقائع فإنها تُطلق على كل واقعة مستجدة كانت أو غير مستجدة، ثم إن هذه الواقعة المستجدة قد تستدعي حكمًا شرعيًا وقد لا تستدعيه، بمعنى أنها قد تكون ملحَّة وقد لا تكون ملحَّة.
وأما المستجدات فإنها تُطلق على كل مسألة جديدة، سواء كانت المسألة من قبيل الواقعة أو المقدَّرة، ثم إن هذه المسألة الجديدة قد تستدعي حكمًا شرعيًا وقد لا تستدعيه، بمعنى أنها قد تكون ملحَّة وقد لا تكون ملحَّة.
وجوهر الفرق: أن النوازل يتعلق بها ولابد حكم شرعي، أما الوقائع والمستجدات فلا يلزم أن يتعلق بها حكم شرعي.
معنى فقه النوازل باعتباره لقبًا على علم معين:
يمكن تعريف فقه النوازل باعتباره عَلَمًا ولقبًا بأنه:
معرفة الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة المُلِحَّة.(10)
وبهذا يظهر أن العلاقة بين علم الفقه وعلم فقه النوازل عي العموم والخصوص الوجهي؛ ذلك أنهما يجتمعان في معرفة أحكام الوقائع العملية المستجدة.
ثم إن علم الفقه أعم من علم فقه النوازل من جهة أن الفقه يشمل معرفة أحكام المسائل العملية، سواء أكانت هذه المسائل واقعة أم مقدرة، مستجدة أم غير مستجدة.
كما أن علم فقه النوازل أعم من علم الفقه من جهة أن فقه النوازل يشمل الأحكام الشرعية للوقائع المستجدة، سواء كانت هذه الوقائع عملية أو غير عملية.
أنواع النوازل:
يمكن تقسيم النوازل باعتبارات متعددة إلى ما يأتي:
1 ـ تنقسم النوازل بالنظر إلى موضوعها إلى:
نوازل فقهية: وهي ما كان من قبيل الأحكام الشرعية العملية.
نوازل غير فقهية: مثل النوازل العقدية؛ كظهور بعض الفرق والنحل، والصور المستجدة للشرك، ومثل المسائل اللغوية المعاصرة؛ كتسمية بعض المخترعات الجديدة، وهنالك قضايا تربوية حادثة، واكتشافات علمية مبتكرة.
وبهذا يُعلم أن مصطلح فقه النوازل يشمل جميع النوازل؛ فقهية كانت أو غير فقهية. أما إطلاق مصطلح (فقه النوازل) على النوازل الفقهية خصوصًا وقصره عليها دون غيرها فهو أمر غير دقيق، بالرغم من شيوعه، والأولى أن يُسمى هذا القسم من النوازل بالنوازل الفقهية، أو نوازل الفقه.
2 ـ تقسيم النوازل من حيث خطورتها وأهميتها إلى:
نوازل كبرى: وهي القضايا المصيرية التي نزلت بأمة الإسلام، وأعني بذلك تلك الحوادث والبلايا التي تدبر للقضاء على المسلمين من قبل أعدائهم، وما يتصل بذلك من المكائد والمؤامرات والحروب المعلنة وغير المعلنة، في شتى المجالات العسكرية والفكرية والاقتصادية والسياسة والاجتماعية.
ونوازل أخرى دون ذلك.
ولا شك أن القضايا المصيرية لابد في مواجهتها وعند بيان حكمها من جمع الكلمة على الهدى، ونبذ الخلاف، والنأي عن التعصب؛ إذ لا يليق بمثل هذا النوع من النوازل الاعتماد على رأي فرد أو اجتهاد طائفة معينة.
3 ـ تنقسم النوازل بالنظر إلى كثرة وقوعها وسعة انتشارها إلى:
نوازل لا يسلم ـ في الغالب ـ من الابتلاء بها أحد؛ كالتعامل بالأوراق النقدية.
نوازل يعظم وقوعها؛ كالصلاة في الطائرة، والتعامل بالبطاقات البنكية.
نوازل يقل وقوعها؛ كمداواة تلف عضو في حد أو بسبب جريمة وقعت منه.
نوازل قد انقطع وقوعها واندثرت، وصارت نسيًا منسيًا؛ كاستخدام المدافع والبرقيات في إثبات دخول شهر رمضان وخروجه.
تنقسم النوازل بالنسبة لجدتها إلى:
نوازل محضة: وهي التي لم يسبق وقوعها من قبل، لا قليلاً ولا كثيرًا، مثل أطفال الأنابيب.
نوازل نسبية: وهي التي سبق وقوعها من قبل، لكنها تطورت من جهة أسبابها والواقع المحيط بها، وتجددت في بعض هيئاتها وأحوالها، حتى صارت بهذا النظر كأنها نازلة جديدة، مثل بيوع التقسيط، والعمليات الطبية الجراحية، والزواج بنية الطلاق.
وهذا القسم من النوازل ـ على وجه الخصوص ـ يفتقر ولابد إلى تحديث مستمر وتجديد لما يتعلق به من صفات وهيئات.
حكم الفتوى في النوازل وأهميته :
حكم الفتوى في النوازل:
الاجتهاد في النوازل واجب على هذه الأمة، فهو من فروض الكفاية، وربما يتعين هذا الواجب على بعض المتهيئين للنظر في بعض النوازل؛ فيصير النظر في نازلة ما واجبًا عينيًا في حق هؤلاء.(11)
وقد ذكر أبو عمر عن جمهور أهل العلم أنهم كانوا يكرهون استعمال الرأي في الوقائع قبل أن تنزل، وتفريع الكلام عليها قبل أن تقع، وعدُّوا ذلك اشتغالاً بما لا ينفع.(12)
وقد ورد في ذلك ما أخرجه الدارمي في سننه(13) عن وهب بن عمير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن لا تعجلوها قبل نزولها لا ينفك المسلمون وفيهم إذا هي نزلت من إذا قال وُفِّق وسُدِّد، وإنكم أن تعجلوها تختلف بكم الأهواء فتُأخذوا هكذا وهكذا، وأشار بين يديه وعلى يمينه وعن شماله«.
لذلك كان من شروط المسألة المجتهد فيها أن تكون من المسائل النازلة بالمسلمين، أما المسائل غير الواقعة فقد يره الاجتهاد وقد يحرم.
ولا يجب النظر في تلك المسائل التي تخص الكفار وحدهم؛ كمسألة بنوك المني.
أهمية الفتوى في النوازل:
تظهر أهمية الاجتهاد في النوازل المعاصرة في النقاط التالية:
1 ـ بيان صلاح هذه الشريعة لكل مكان وزمان: وأنها هي الشريعة الخالدة الباقية، وأنها الكفيلة بتقديم الحلول الناجعة لكل المشكلات والمعضلات.
2 ـ إيقاظ هذه الأمة والتنبيه على خطورة قضايا ومسائل ابتُلي بها جموع المسلمين، مع كونها مخالفة أشد ما تكون المخالفة لقواعد هذا الدين، ومضادة لمقاصده، وقد صارت ـ لشديد الحزن والأسى ـ جزءًا لا يتجزأ من حياة الأمة الإسلامية، وباتت حقائقها الشرعية غائبة عن عامة المسلمين في هذا العصر.
3 ـ وبإعطاء هذه النوازل أحكامها الشرعية المناسبة لها مطالبة جادة ودعوة صريحة إلى تحكيم الشريعة في جميع جوانب الحياة، وهو تطبيق عملي تبرز به محاسن الإسلام، ويظهر منه سموه وتشريعاته.
4 ـ والحاجة قائمة إلى ضرورة إيجاد معلمة متكاملة تستوعب قضايا العصر ومسائله المستجدة على هدي الشريعة الإسلامية.
5 ـ ولا شك أن إعطاء النوازل المستجدة في كل عصر أحكامها الشرعية المناسبة يدخل دخولاً أوليًا تحت مهمة التجديد لهذا الدين، وإحياء ما اندرس من معالمه.
مدارك الحكم على النوازل :
الناظر في نازلة من النوازل متى أراد دراستها والتوصل إلى حكمها كان عليه أن يسلك المنهج الآتي: التصور، ثم التكييف، ثم التطبيق.
قال ابن سعدي: »جميع المسائل التي تحدث في كل وقت، وسواء حدثت أجناسها أو أفرادها يجب أن تتصور قبل كل شيء.
فإذا عُرفت حقيقتها، وشُخصت صفاتها، وتصورها الإنسان تصورًا تامًا بذاتها ومقدماتها ونتائجها طُبقت على نصوص الشرع وأصوله الكليه؛ فإن الشرع يحل جميع المشكلات: مشكلات الجماعات والأفراد، ويحل المسائل الكلية والجزئية؛ يحلها حلاً مرضيًا للعقول الصحيحة، والفطر السليمة.
المدرك الأول: التصور:
إن تصور الشيء تصورًا صحيحًا أمر لا بدّ منه لمن أراد أن يحكم عليه، وكما يقال: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فتصور النازلة مقدمة لا مناص عنها ولا مفر منها لمن أراد الاجتهاد في استخراج حكمها.
إن الإقدام على الحكم في النوازل دون تصورها يعد قاصمة من القواصم، وهذا باب واضح لا إشكال فيه، والباب الذي يأتي من جهته الخلل والزلل إنما هو القصور والتقصير في فهم النازلة وتصورها، وليس في تحصيل أصل التصور.
وتصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا قد يتطلب:
استقراء نظريًا وعلميًا.
وقد يفتقر إلى إجراء استبانة، أو جولة ميدانية، أو مقابلات شخصية.
وربما احتاج الأمر إلى معايشة ومعاشرة.
وربما كان سؤال أهل الشأن والاختصاص كافيًا؛ كمراجعة أهل الطب في النوازل الطبية، وأصحاب التجارة والأموال في والمعاملات المالية وهكذا.
المدرك الثاني: التكييف:
يمكن تعريف التكييف بأنه: تصنيف المسألة تحت ما يناسبها من النظر الفقهي, أو يقال: هو رد المسألة إلى أصل من الأصول الشرعية.
وتكييف النازلة متوقف على تحصيل أمرين:
أمر خاص يتعلق بخصوص النازلة، وأمر عام.
أما الأمر الأول: فهو أن يحصل للناظر الفهم الصحيح والتصور التام للمسألة النازلة. وهذا ما مضى بيانه في المدرك السابق.
والأمر الثاني: وهو أن يكون لدى الناظر المعرفة التامة بأحكام الشريعة وقواعدها، وهذا إنما يتأتى لمن استجمع شروط الاجتهاد، من الإحاطة بالنصوص ومعرفة مواقع الاجتماع والاختلاف، والعلم بدلالات الألفاظ وطرق الاستنباط، بحيث تكون لديه القدرة على استنباط الأحكام من مظانها.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: »وَلا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلا الْحَاكِمُ من الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلا بِنَوْعَيْنِ من الْفَهْمِ:
أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ، وَالْفِقْهِ فيه، وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ ما وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالأَمَارَاتِ وَالْعَلامَاتِ؛ حتى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ في الْوَاقِعِ، وهو فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الذي حَكَمَ بِهِ في كِتَابِهِ، أو على لِسَانِ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا على الآخَرِ.
فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في ذلك لم يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أو أَجْرًا.
فَالْعَالِمُ من يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فيه إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ«(14).
وتكييف النازلة , إنما يحصل بواحد من أربعة مسالك على الترتيب الآتي:
1 ـ النص والإجماع.
2 ـ التخريج على نازلة متقدمة.
3 ـ التخريج على قاعدة فقهية أو أصل شرعي أو فتوى إمام متقدم.
4 ـ الاستنباط.
المسلك الأول: البحث عن حكم النازلة في نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وذلك إما بدلالة العموم، أو المفهوم، أو الإيماء، أو الإشارة , أو القياس.
المسلك الثاني: الاجتهاد في إلحاق هذه النازلة بما يشابهها من النوازل المتقدمة؛ لتقاس عليها، وتأخذ حكمها، وهذا ما يسمى بالتخريج(15).
ومن الأمثلة على ذلك:
ما يسمى بالبوفيه المفتوح أو الإطعام حتى الإشباع؛ إذ يمكن إلحاقه بالحمامات التي وقع الإجماع على جوازها من باب الاستحسان؛ فإن من يدخل هذه الحمامات يتفاوتون في استهلاك الماء، مع كون الأجرة مقدرة للجميع.
المسلك الثالث: النظر في اندراج حكم هذه النازلة تحت بعض القواعد الفقهية أو الأصول الشرعية، أو ضمن فتاوى بعض الأئمة المتقدمين، وهذا يسمى أيضًا بالتخريج(16).
ومن الأمثلة على ذلك:
مشروعية السعي فوق سطح المسعى، عملاً بالقاعدة الفقهية: الهواء يأخذ حكم القرار.
تحريم تمثيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصحابة رضي الله عنهم؛ لأن مقامهم مقام عظيم عند الله وعند المسلمين، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
المسلك الرابع: الاجتهاد في استخراج حكم مناسب لهذه النازلة بطريق الاستصلاح أو سد الذرائع أو غيرهما، وهذا يسمى بالاستنباط(17).
ومن الأمثلة على ذلك:
الحكم بجواز زراعة الأعضاء؛ طلبًا لمصلحة المريض المستفيد، وحفظًا لحياته، والحكم بمنعها حفظًا لحق المريض المتبرع أو من في حكمه، وصيانة لحرمته.
• القول بمشروعية الفحص الطبي قبل الزواج ندبًا أو وجوبًا؛ لما يترتب عليه من درء لمفسدة انتشار بعض الأمراض الوراثية في الأولاد.
المدرك الثالث: التطبيق:
تطبيق الحكم على النازلة يُراد به: تنزيل الحكم الشرعي على المسائل النازلة.
ذلك أن تصور النازلة وفهمها فهمًا صحيحًا، ثم تكييفها من الناحية الفقهية، كفيلان بمعرفة حكم النازلة المناسب لها، وهذا هو النظر الجزئي الخاص، أما تنزيل هذا الحكم على النازلة فهو أمر آخر؛ إذ يحتاج ذلك إلى نظر كلي عام. ومن القواعد المقررة شرعًا وعقلاً وعرفًا في تطبيق الأحكام الخاصة على محالّها: أن ينسجم هذا التطبيق مع المصالح العليا؛ بحيث لا يفضي تحصيل المصلحة الجزئية إلى تفويت مصلحة عظمى.
ومن الأمثلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك هدم الكعبة وبناءها على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقتل رأس المنافقين، مع ما فيه من المصلحة الظاهرة التي يدل عليها النظر الخاص، وذلك مراعاة للمصلحة العليا.
والمراد بالمصلحة العليا في الشريعة: المحافظة على الكليات الخمس: (الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال).
ثم إن تنزيل الأحكام على النوازل أمر يحتاج إلى فقه دقيق ونظر عميق، وقد أشار السبكي(18) إلى الفرق بين الفقيه المطلق، وهو الذي يصنِّف ويدرِّس، وبين الفقيه المفتي، وهو الذي يُنزِّل الأحكام الفقهية على أحوال الناس والواقعات، وذكر أن الفقيه المفتي أعلى مرتبة من الفقيه المطلق، وأنه يحتاج إلى تبصر زائد على حفظ الفقه وأدائه.
وإذا عُلم أن تطبيق الحكم على النازلة لابد فيه من المحافظة على مقاصد الشريعة؛ فإن هذه المحافظة تكون بمراعاة ثلاث قواعد:
الأولى: الموازنة بين المصالح والمفاسد في الحال والمال.
الثانية: تقدير حالات الاضطرار وعموم البلوى.
الثالثة: اعتبار الأعراف والعادات واختلاف الأحوال والظروف والمكان والزمان.
المدرك الرابع: التوقف:
يمكن أن نضيف مدركًا رابعًا، وهو التوقف في الحكم على النازلة. وإنما يُصار إليه عند العجز عن تصور الواقعة تصورًا تامًا، أو عند عدم القدرة على تكييفها من الناحية الفقهية، أو عند تكافؤ الأدلة وعدم القدرة على ترجيح قول من الأقوال.
قال ابن عبد البر: »ومن أشكل عليه شيء لزمه الوقوف، ولم يجز له أن يحيل على الله قولاً في دينه، لا نظير له من أصل، ولا هو في معنى أصل، وهذا الذي لا خلاف فيه بين أئمة الأمصار قديمًا وحديثًا، فتدبره«(19).
مصادر الفتيا :
مصادر التشريع الأساسية هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ثم بعدها مصادر توصف بالمصادر التبعية، أي أنها مبنية على هذه المصادر ومنبثقة منها وفي إطارها لا تعدوها ولا تخرج عنها.
• من أبرز هذه المصادر التبعية وما يتعلق بها:
المصلحة المرسلة، والعرف، والاستحسان، والاحتياط، وسد الذرائع، وقاعدة الضرر والضرورات، وعموم البلوى، والاستصحاب، والبراءة الأصلية، والمقام ليس مقام بسط للحديث عن هذه المصادر كلها.
• وفي مدخل هذا الموضوع يقال:
إن هذه المصادر من العرف، والاستحسان، والمصلحة هي المحك الدقيق والمرتقى الصعب في النظر فيما بسطه علماء الأصول والقواعد ـ رحمهم الله ـ حينما بحثوا في أعراف الناس وحاجاتهم وضروراتهم، وأثر المتغيرات والأحداث على استمساكهم بدينهم، وانتظام أمور معايشهم، فكان ذلك معتركًا دقيقًا يجب التثبت فيه على ما سوف يتبين إن شاء الله.
وسوف يقتصر الكلام على المصادر التالية:
(المصلحة المرسلة، الاستحسان، سد الذرائع والاحتياط، عموم البلوى، العرف).
1 ـ المصلحة المرسلة:
هي المصلحة التي شهد الشرع لجنسها، بمعنى أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة. وليست هي المصلحة الغريبة التي لم تشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياسًا، ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً، فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة، والغزالي الشافعي، والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة، ويُدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي ـ رحمه الله ـ وشدد النكير على القائلين به، وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة ـ رحمهما الله ـ الأخذ به، فهذا الأخير استدلال بنص، أو إجماع، أو عرف، أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس. وهو الذي ستأتي الإشارة إليه.
غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:
الأول: أن تكون معقولة بحيث تجري على الأوصاف المناسبة التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.
الثاني: أن يكون الأخذ بها راجعًا إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين؛ بحيث لو لم يأخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج شديد.
الثالث: الملاءمة بين المصلحة التي تعد أصلاً قائمًا بذاته وبين مقاصد الشارع، فلا تنافي أصلاً من أصوله، ولا تعارض دليلاً من أدلته، بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها، بأن تكون من جنسها ليست غريبة عنها.
2 ـ الاستحسان:
عرفه ابن رشد المالكي فقال: »إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه، فيعدل عنه في بعض المواضع، لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع«.
وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال: »هو العدول عن الحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول«.
فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة، وحقيقته كما يلاحظ، وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.
3 ـ سد الذرائع والاحتياط:
سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه، فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم، وإن كان في أصله حلالاً، ومعنى هذا الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى مالا يجوز. فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا (275) سورة البقرة. ولكن قاعدة سد الذرائع تقتضي بطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم، أو كان الباعث الدافع إليه غير مشروع، كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلمًا، أو لأهل الحرب، وبيع العنب لمن يتخذه خمرًا.
أما الاحتياط: »فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه«.
مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين:
الأول: تحقق الشبهة.
الثاني: حصول الشك في الحكم الشرعي.
4 ـ عموم البلوى:
يظهر عموم البلوى في موضعين:
الأول: ما تمس الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.
الثاني: شيوع الوقوع والتلبس، بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.
ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الثاني ابتلاء بمشقة الدفع.
الضابط في عموم البلوى:
يرجع النظر في عموم البلوى إلى ضابطين رئيسين:
الأول: الضابط في نزارة الشيء وقلته:
أي: أن مشقة الاحتراز من الشيء وعموم الابتلاء به قد يكون نابعًا من قلته ونزارته، ومن أجل هذا عفي عن يسير النجاسات، وعن أثر الاستجمار في محله، عما لا يدركه الطرف، وما لا نفس له سائلة ونيم الذباب(ما يخرج من فضلاته)، وما ترشش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه، وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات.
الثاني: كثرة الشيء وشيوعه وانتشاره:
كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.
وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذرًا في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنه فيه مشقة وصعوبة نظرًا لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه، كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذرات واختلاط الأموال.
5 ـ العُرْفُ:
ويراد به: »ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول«.
فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته، سواء كان قولاً أو فعلاً، ولم ينكره أصحاب الذوق السليم. ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة.
ويخرج من ذلك العرف الفاسد، وهو ما استقر لا من جهة العقول كتعاطي المسكرات، وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات، كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول كالكشف عن العورات، وعدم الاحتشام، والألفاظ المستقبحة.
ويحسن الوقوف هنا حول مسألة تغير الأحكام بتغير العادات والأعراف:
يقول الإمام القرافي: »إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا أبطلت... وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وافته به، دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين«(20).
ويقول الحافظ ابن القيم: »ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان«(21).
يوضح ذلك: أن هناك أوصافًا ربط الشارع الحكم بها، وبني عليها أمور الناس فالعدالة ـ مثلاً ـ شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ (2) سورة الطلاق ، وحينما نراجع كلام أهل العلم وتعريفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها نلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس، ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه.
ومن المعلوم أن هذا شيء متغير، فما يكون مألوفًا في بلد أو دلالة مروءة فيه قد لا يكون في البلد الآخر، وكذلك عند اختلاف الزمن.
الأسس العامة للفتيا
مقاصد الشريعة:
تعريف مقاصد الشريعة لغة:
المقاصد: من القَصْد، ويطلق على معانٍ، أهمها ثلاثة:
أ ـ استقامة الطريق: يقال: قصَدَ يقصِدُ، فهو قاصد(22)، وقوله تعالى: وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ (9) سورة النحل.
ب ـ التوسط في الأمور، والاعتدال فيها: ومنه حديث: »القصد القصد تبلغوا«(23).
ج ـ إتيان الشيء: تقول: قصدتُه، وقصدتُ له، وقصدتُ إليه؛ بمعنىً (24).
تعريف مقاصد الشريعة اصطلاحًا:
عرَّف الطاهر بن عاشور مقاصد الشريعة بقوله: (هي المعاني والحكم الملحوظة للشارح، في جميع أحوال التشريع، أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة)(25). فيدخل في هذا التعريف: أوصاف الشريعة، وغايتها العامة، والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل فيه أيضًا: معانٍ من الحِكم ليست ملحوظةً في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرةٍ منها(26).
مراتب مقاصد الشريعة:
تنقسم مقاصد الشريعة بحسب درجة الحاجة إليها إلى ثلاث مراتب، أوردها فيما يأتي مختصرة، فقد بسطَ الكلام فيها جمعٌ من المعاصرين(27).
المرتبة الأولى: المقاصد الضرورية: وهي الأمور التي لا بد منها في قيام مصالح الدارين، بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة، بل على فسادٍ وتهارجٍ وفوت حياة.
المرتبة الثانية: المقاصد الحاجية: وهي ما يفتقر إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق المؤدي إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُرعَ دخل على المكلفين حرجٌ ومشقةٌ في الجملة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد المتوقع في المصالح الضرورية(28).
المرتبة الثالثة: المقاصد التحسينية: وهي الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب الأحوال المدنسات، التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق. قال الشاطبي: (وهي جاريةٌ فيما جَرَتْ فيه الأُولَيَان)(29)اهـ.
أثر مقاصد الشريعة في الفتيا المعاصرة:
المسألة الأولى: شرط الفتيا فهمُ المقاصد:
اشترط غير واحدٍ من الأصوليين أن يتوفّر المفتي على (فهمِ مقاصد الشريعة على كمالها)(30)، فبعضهم ينص على هذا الشرط صراحةً، وآخرون يومئون إليه إيماءً، فقد صرّح أبو إسحاق الشاطبي بذلك، معللاً بأنَّ الشريعة مبنية على اعتبار المصالح، وأن المصالح إنما اعتُبرت من حيث وَضَعَها الشارعُ كذلك، لا من حيث إدراك المكلف، إذا المصالح تختلف عند ذلك بالنسب والإضافات، وأنَّه قد استقر بالاستقراء التام أن المصالح على ثلاث مراتب، فإذا بلغ الإنسان مبلغًا فهم عن الشارع فيه قصده في كل مسألةٍ من مسائل الشريعة، وفي كل باب أبوابها؛ (فقد حصل له وصفٌ هو السبب في تنزله منزلة الخليفة للنبي صلى الله عليه وسلم في التعليم والفتيا والحكم بما أراه الله)(31).
ثم ألحق الشاطبي بهذا الشرط شرطًا آخر لا ينفكُّ عنه، وهو: (التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها)(32)، أي في المقاصد.
المسألة الثانية: أثر المقاصد في تصرف المفتي بالاجتهاد:
أولاً: إمداد المفتي بالفتيا فيما لا يجد فيه نصًا:
معلومٌ أن جلَّ الفقه مدلولٌ عليه بنصوص الكتاب والسنة، حيث جاءت أدلتهما نصوصًا عامةً جامعةً، لتستوعب ما لا يحصره العدُّ من الوقائع(33)، إذ من غير الممكن أن يُنصَّ على كل شيءٍ باسمه الخاص، ومن اشترط ذلك عُدَّ من جملة الجهلة بدين الله، قال أبو العباس ابن تيمية في معرض كلامه عن الحشيشة: »وأما قول القائل: إن هذه ما فيها آيةٌ ولا حديث، فهذا من جهله، فإن القرآن والحديث فيهما كلمات جامعة، هي قواعد عامة، وقضايا كلية، تتناول كلما دخل فيها، وكلما دخل فيها فهو مذكورٌ في القرآن والحديث باسمه العام، وإلا فلا يمكن ذكر كل شيءٍ باسمه الخاص«(34).
ثانيًا: ضبط مشارع الخلاف في الفتيا:
الشريعة حقٌّ كلها، والحق لا يتعدد، وإنما نشأ الخلاف جرَّاءَ أسبابٍ بشريةٍ، اقتضت هذا التباين والتخالف في مسائل الفقه، وإذا كان الخلافُ الناجمُ عن اجتهادٍ مستوفٍ لشرائطه؛ مقبولاً شرعًا؛ فإنه ينبغي أن يضبط هذا القول بما يعصم عن الوقوع في التشرذم الفقهي، واضطراب الأقاويل في مسائل العلم؛ بسبب الأنظار الشاطحة عن جادة الراسخين، ويعظم الخطب ويعظم الخطب في هذا إذا كانت المسألة مفترضةً فيما يتعلق بشؤون الأمة عامةً، مما يختصُّ بالنظر فيه من كان أدخلَ في علوم الاجتهاد، وأفقه بمآخذ السياسة الشرعية.
ثالثًا: العصمة من الزلل في الفتيا:
إن التعرف على مقاصد الشريعة، ورعاية المجتهد لها في تصرفه باجتهاده، فتيًا وحكمًا؛ لَمِن العواصم التي تحميه من الجنوح إلى الخطأ والزلل، وهذا ما يؤكِّد عليه الشاطبي في مواضع من كتبه، بل إنه يقرر أن الفقيه المجتهد، وإن كان عالمًا بالمقاصد، فإنه إذا غفل عنها زلَّ في اجتهاده، وزلًّة العالم ـ كما يقول الشاطبي ـ: »أكثر ما تكون عند الغفلة عن اعتبار مقاصد الشارع في ذلك المعنى الذي اجتهد فيه«(35).
ضوابط إعمال مقاصد الشريعة في الفتيا المعاصرة:
المسألة الأولى: ضابط تحقيق القصدية.
المسألة الثانية: ضابط الموازنة بين المقاصد والأدلة الأخرى.
المسألة الثالثة: ضابط مراعاة مراتب المقاصد.
القواعد والضوابط الأصولية والفقهية:
القواعد الأصولية:
تعريف القواعد الأصولية:
أولاً: في اللغة: جمع قاعدة، وهي أساس الشيء(36)، سواءٌ أكان ذلك الشيء حسيًا، أم معنويًا، قال تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) سورة البقرة ،وقواعد البيت إما أن يُراد بها: أسُسُه(37)، وإما أن يُراد بها: جُدُرُه(38).
أهمية القواعد الأصولية:
تظهر أهمية القواعد الأصولية من جهة كونِ معرفتها شرطًا لصحة الفتيا، ذلك أنها العَمَد التي تتأسس عليها الأحكام، قال أبو المعالي الجويني: »المفتي من يستقل بمعرفة أحكام الشريعة نصًا واستنباطًا، فقولهم: نصًا يشير إلى معرفة اللغة والتفسير والحديث، وقولهم استنباطًا: يشير إلى معرفة الأصول والأقيسة وطرقها وفقه النفس«(39).
وعندما ذكر ابنُ القيم شروط الفتيا؛ حكَى عن بعض الأئمة ـ كالشافعي وأحمد ـ اشتراطهم معرفة الأصول(40).
فالشافعي لا يُحلُّ لأحدٍ أن يفتي في دين الله، إلا رجلاً عارفًا بكتاب الله، بناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، ويكون بصيرًا باللغة، بصيرًا بالشعر، وما يحتاج غليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحةٌ بعد هذا، فإن كان هكذا »فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي«(41).
القواعد الأصولية في الفتيا المعاصرة:
أولاً: خطورة التصدي للفتية من غير المتأصلين:
لا خلاف في أهمية القواعد الأصولية في تكوين الفقيه المعتبر، كما لا إشكال في أن تلك القواعد لا تصنع لدارسها ملكة فقيهة ناجزةً، حتى يترقى في مدارجها ـ بالدربة والمراس ـ شيئًا فشيئًا، وحتى يُلقِح مطالعته للفروع. بما انبنت عليه تلك الفروع من الأصول، فتجتمع له أسباب الفقه بالإشراف على الأصول والفروع، ويتهدَّى إلى تخريج هذه على تلك، وبذا يخرج من دائرة التقليد والتبعية وحكاية الأقوال إلى أُولى درجات الاجتهاد، ثم هؤلاء بعدُ على درجات.
وهذا ما كان يرويه الإمام أبو حنيفة حين قال: (لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعرف من أين قلنا)(42)اهـ. وعبارة بعض أصحابه: (من حفظ الأقاويل ولم يعرف الحجج؛ فلا يحل له أن يفتي فيما اختلف فيه)(43)اهـ.
ثانيًا: الخلل التأصيلي في الفتيا المعاصرة:
بالتأمل في حركة الإفتاء المعاصرة نلحظ ما تعانيه الفتيا من افتقار إلى التأصيل الصحيح، الذي يرشِّدها إلى جادَّة الصواب، وينأى بها عن موارد الخطل والاضطراب، ومظاهر هذا الخلل متعدِّدة، تحدَّث عنها غير واحدٍ من أهل العلم، وقد رصدَ هذا البحث عددًا منها، وهي مبحوثةٌ في أثناء مسائله، بيد أن من أهم المظاهر التي تتعلق بمشاكل التأصيل في الفتيا المعاصرة، مما يكشف خللاً في التكوين والنظر؛ مظهرين لا يخفيان على متابعٍ: هما التناقض والتلفيق، وهما موضوع الحديث في الفقرتين التاليتين:
أ ـ تناقض الفتاوى المعاصرة سببه خللٌ تأصيلي:
المراد بالتناقض هنا أن يقع التعارض في الفتاوى، من أوجهٍ لا يمكن الجمع بينها، بحيث ينقض بعضها بعضًا. وسواء أكان هذا التناقض في الفتيا الواحدة، ينقض آخرها أَوَّلها، أو وقع بين اثنين فأكثر.
والتناقض ربما كان أمارةً على ضعف التكوين العلمي، فإن غير المتأصل كثيرًا ما ينقض بعض كلامه بعضًا، وتهدم أعجاز فتاويه صدورها.
ب ـ التلفيق بين الأقوال مخالفٌ للأصول:
أريد بالتلفيق ها هنا معنًا خاصًا، وهو أنه حين يُسأل المفتي عن مسألة يعمد إلى البحث في أقوال الفقهاء، وينتقي منها ما يناسبه، لا على ما تقتضيه الأدلة والقواعد الأصولية الفقهية؛ بل على أساس الأيسر والأسهل، حتى إذا ما تأمَّلتَ فتاوى هؤلاء ألفيتها خليطًا من أيشر المذاهب والاقوال، فهذا نوع تلفيق يضادُّ الشريعة ويحادُّ أدلتها.
القواعد الفقهية:
المسألة الأولى: تعريف القواعد الفقهية:
وقد عرفها الشيخ مصطفى الزرقا بأنها: أصولٌ فقهيةٌ كليةٌ، في نصوص موجزة دستورية، تتضمن أحكامًا تشريعية عامة، في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها(44).
المسألة الثانية: أهمية القواعد الفقهية بالنسبة إلى الفتيا:
صناعة التقعيد الفقهي فنٌّ جليلٌ من فنون العلم، اقتضاه ـ فيما يظهر ـ أمران:
الأول: تشعب مسائل الفقه، وتناثر تطبيقاته، ولو تُركت تلك المسائل على سجيتها؛ لأفضى بالمتفقهين إلى حرجٍ شديدٍ،ولتفلَّتت عليهم شواردها(45)، لكونها ذات طبيعة تراكمية، وبذا يستغلق على المفتين والحكام تحصيل أحكام المسائل المتجددة، أو يكاد، ولأصبح اسم الفقيه يطلق مجازًا، لا حقيقة له، ضرورةَ ارتباط الفقه بتعرف المعاني والعلل، والتصرف فيها، وقد فسر ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ قوله تعالى: يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (269) سورة البقرة. بأنه الفقه في القرآن(46)، وعن مجاهد قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه(47)، وعن أبي العالية: الكتاب والفهم فيه(48)، وروي عن الإمام مالك أنه قال: (وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله)(49)، ولهذا قال ابن كثير في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ (12) سورة لقمان، (أي: الفقه في الإسلام، ولم يكن نبيًا، ولم يوحَ إليه)(50)، ومصداق هذه التفسيرات(51)، ما رواه حميد بن عبد الرحمن قال: سمعت معاوية ? خطيبًا يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: »من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسمٌ والله يعطي،ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله«(52).
الثاني: اتساع الخلاف في علم الفروع، وتشعب المذاهب في مسائله، حتى إنك لتجد الأقوال المتناقضة، في المسألة الواحدة، في المذهب الواحد، وهذا ما اشتكى منه الإمام الشافعي، واستدعاه إلى تصنيف رسالته الأصولية، وهو ما حرَّك الفقهاء أيضًا إلى استقراء أسباب الخلاف، والبحث في مثاراته، ولأجله ألف أبو الوليد ابن رشد الحفيد كتابه: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد).
على أن معرفة القواعد وحدها لا تكتفي لأن تعمل عملها في ضبط الفتيا، حتى ينضاف إليها الاقتدار على استثمار تلك القواعد، وتنزيل أحكامها على محالِّها، وطريق ذلك الاتساع في مطالعة كتب الفروع، وعرضها على القواعد والضوابط، ومزاحمة أهل الفقه في ذلك، وإلا »فما كلُّ من أحرز الفنون أجرى من قواعدها العيون، ولا كلُّ من عرف القواعد استحضرها عند ورود الحادثة التي يفتقر إلى تطبيقها على الأدلة والشواهد«(53).
مناهج الفتيا المعاصرة
تابع البحث----------
[center]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
ضوابط فقه النوازل
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» تابع البحث في: ضوابط فقه النوازل
» مقدمة في فقه النوازل
» ضوابط تدبير الاختلاف مع الآخر في أصول التراث الإسلامي _ الدكتور محمد رفيع (حفظه الله)
» دراسة في الجانب النظري لفقه النوازل(للإستفادة)
» إعلان عن تعويض مادة فقه النوازل والتطبيقات في قواعد الفقه

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى ماستر القواعد الفقهية والأصولية بفاس :: القسم العام للمنتدى  :: منتدى سلك الدكتوراه-
انتقل الى: